الثلاثاء, مايو 21
Banner

حين تُقاضي الشخصية الورقية كاتبها!

أحمد المديني

قضية طريفة طفت أخيراً، في الوسط الأدبي الفرنسي، لها سوابق، قد لا ينتبه إليها الجمهور الغُفل، لكنها حاضرة بانتظام في خطط وسيناريوهات الكتاب الروائيين ودور النشر المسؤولة عن إصدار أعمالهم وتتحمل الأوزار. في هذه المرة لفتت الأنظار وأعادت إلى الذاكرة سلسلة من المحاكمات في تاريخ النشر، استوقفت الإعلام الفرنسي المعنيّ، لوجود اسم الروائي إمانوييل كاريير، ذي الشهرة، وشخصية موصوفة بالعُصاب، وأغلب روايته مستوحاة من سيرة حياته ومحيطه ومعارفه. وهنا الموضوع. آخر رواية له هذا العام بعنوان Yoga (يوغا)، عن دار غراسي، ومن المهم تسجيل أنها المرة الأولى التي لا تحضر فيها زوجته السابقة، هيلين دفنيك عيناً، في هذا العمل.

ومع نبش الصحافة الأدبية وتسريبات للزوجة، تبيّن أن غيابها الشفاف وراءه قضية ذات طابع قانوني وأدبي من نوع خصوصي حقا في الحياة الأدبية تختبئ بين السطور، هي من أسرار بعض الكتاب ودور النشر ومستشاريها من المحامين الذين يدبون نملا فوق الحروف بالمجهر، يدققون إلى أين يصل (نرجس) في فرط البوح والتملّي في ذاته!

ما هي؟ هناك ركنان للجواب، الأول، يخصّ الفن الروائي، عموماً، والسيرة الذاتية ملحقة به، وفرعاً خصوصياً ملحقاً بها حديثَ النشأة قياساً بعمر الأدب السردي، مصطلحه (التخييل الذاتي). هذا الأخير مزيجٌ من الإثنين، يستخدم الرواية فناً، والسيرة الذاتيةَ بأطرافها مُموَّهةً منطلقاً ومهاداً، هنا يستخدم المؤلف عناصر وملامح من حياته وحياة غيره، أيضا، دون أسماء معلنة أو إشاراتٍ فاضحة، فيغيّر أو يعدّل بإضفاء مسحة خيال… حين تشتغل صناعة ولعباً تصبح تخييلا، وهي ملتقَطةٌ من الواقع حتما وتتراوح أهميتُها قياساً به، فيبقى الواقع فيه مِدماكا.

حياة حميمية

الركن الثاني، يخص القانون، أي حدود استخدام المؤلف للحياة الخاصة للآخرين الحميميين، خاصة، في كيفية حضورها وأوضاعها وما يُنسَب إليها حتى واسمُها غائب. ولتفادي العواقب الجزائية من وراء انسياق الكتاب لإثارة حياة غيرهم تعرض دورُ النشر الكبرى الروايات، ذات الطابع المذكور خاصةـ وهي اليوم رائجة وباتت تمثل منذ أربعة عقود تيارا وحدها وإقبال الكتاب والأقلام النسوية عليها شديد ـ على محامين مستشارين لديها يفحصون الأعمال ويدققون ويغربلون كي لا تقع الدور في متابعات قضائية تكلفها مخالفات مالية باهظة، كم لها من أمثلة، رغم أن المسألة معضلة. كيف؟ إننا أمام شخصيات من ورق، بما أنها شبه روائية مدمَجة في نص تخييلي بزعم مؤلفه، ولهذا كما هو المبدأ المقدس في بلده أن يتمسك بحق حرية التعبير، فلا قيد على الإبداع؛ بالمقابل، فإن الشخصية من ورق تخرج من الكتاب لترتدي مُسوحها الطبيعية وتذهب إلى المحكمة لمقاضاة كاتب استخدم سيرتها كيفما كانت، لا قدْحاً، ضرورة، وتطالب بجَبْر الضرر.

تذهب مؤازرَةً بمحامٍ مسلّحٍ، أولا، بقانون 1881 حول حرية الصحافة يَسري على النشر في آن واحد، وبالمادة التاسعة من القانون المدني تنص على أن “لكلٍّ الحقُّ في احترام حياته الخاصة” مع ما يستتبعهما من اجتهادات ومراوغات. بيد أن طارئاً اقتحم أخيراً هذ الصراع، ليعطي للقضية وضعاً مؤسِّسياً مختلفاً يرقى إلى مستوى التعاقد، في صورة العقد الذي أبرم بين إمانويل كارييه وزوجته السابقة، وكان جزءاً من شروط الطلاق بينهما، أن لا يدرِج حميمياتِهما وحياتها بأي شكل في رواياته ذات الطابع التخييلي الذاتي في أغلبها، وهو الذي كثيراً ما استخدمها أو سخّرها في سرده لأهوائه (الفنية) برضاها أو دون اعتراض منها طالما كانا في العشرة الزوجية. وقد أصرت على العقد معرفة، حسب أقوالها، بمزاجية زوجها ووضعه المرَضي، ما عدا إن أبدت موافقة قبلة موثقة، وهو أمر مستبعد. أهل القانون وجدوا في هذه السابقة اجتهاداً يجنّب الخصام وتكاليفه ثلاثة أطراف: الكاتب/ الشخصية/ الشخص، والناشر.

هل حُلّ المشكل حقا؟ كلاّ، القضية ستبقى قائمة، الكتابة الروائية والسِّيَرية بأنواعها لعب، ورغبة الكتّاب في البوح والتعرية لا تنتهي، وفي فرنسا تحديداً، حيث يربط الإنسان والكاتب أساسا وجوده الشخصي والكينوني وإبداعَه بمبدأ الحرية، ولا شيء بمقدوره أن يردعها، مهما اجتهد المشرّع، سيجد مساحة المناورة واللعب الفني أكبرَ وأمكرَ من أن يحاصرها. هنا الإشكالية، وما هي المرة الأولى التي يعرف فيها تاريخ الأدب مثل هذه المآزق قبل أن يصبح التخييل الذاتي نوعا سائداً معترفاً به لدى النقاد والدارسين، وتصطفي (الغونكور) نماذجه منذ فوز رواية مرغريت دوراس “العشيق”(1994) بالجائزة، ثم صُعداً حين استخدمه روائيون كبار من عيار ألان روب غريي أنهى به حياته الأدبية في ثلاثية (Romanesques).

التخييل الذاتي… عربياً

وبطبيعة حالنا البئيس، فنحن أبعد من أن نوجد أدبيا في هذا الوضع، علما بأن روايات التخييل الذاتي عندنا تعرف تناميا ملحوظا، ليس اختيارا فنيا بالضرورة، بل لأن الكتاب والكاتبات يعجزون عن صوغ العوالم الموضوعية المناسبة للرواية، وهم أقلُّ حِنكةً لخلق شخصيات بديلة أبعد من ذواتهم، لذلك فالنصوص المحتمل نعتُها نوعاً كذلك ضئيلةٌ وأغلبُها متهافت وذو هُجنة قبيحة لا خلاّقة. ولنفرض أنها وُجدت حسب النسق، فالحميمية فيها تهيؤات واستيهامات لا واقع حسّي، ومن يجرؤ للإشارة بالاسم أو العلامة، في مجتمعات الحميميُّ فيها مرذولُ القيمة وقيمةُ الحرية حبيسةُ التشريعات القانونية. كلّ الويل لمن تعرّض لحاكم بالسؤال قبل النقد، أما الدين فلا تسأل.

هكذا، نحتاج أن نهدأ ونتواضع ونحن نتحدث عن القوانين والمذاهب الفكرية والتيارات الأدبية، الحداثية، تلك، مثلا، فلا نقفز على الواقع الذي نعيش فيه، والذي تظهر فيه هذه التيارات والتمثيلات بمثابة طفيليات، إذ كيف الحديث عن الحميمي، وحقِّ شخص في ملاحقة (كاتب) ينتهك سيرته، إذا كانت حقوقه الأولية إنساناً في مهب الريح. رغم هذا يمكن القول بأن الأدب يبقى المجال الوحيد الذي يحيا فيه الكاتب بحرية وهو من يضع لنفسه قيوده، وإذا انعدمت هذه الحرية فإننا، نُجهز على الحق في الخيال، ما الإبداع والحياة بدونه؟!

المصدر: النهار العربي

Leave A Reply